فصل: سئل عن قسمة الوقف ومنافعه‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فإن قال‏:‏ قد ثبت العموم في الجمل المتقدمة، فلا يجوز تخصيصه بمحتمل متردد ـ وليس غرضنا هنا إفساد هذا الدليل ـ بل نقول‏:‏ موجب هذا الدليل اختصاص التوابع بالجملة الأخيرة مطلقاً‏.‏ أما التفريق بين عاطف وعاطف، فليس في هذا الدليل ما يقتضيه أصلا، وأي فرق عند العقلاء بين أن يقول‏:‏ وقفت على أولادي، وعلى المساكين، إلا أن يكونوا فساقاً‏؟‏ ‏!‏ نعم، صاحب هذا القول ربما قوي عنده اختصاص الاستثناء بالجملة الآخرة، وهاب مخالفة الشافعي فغاظ ما عنده من الرجحان، مع أنا قد بينا أن مسألتنا ليست من موارد الخلاف، وإنما الخلاف في الاستثناء أو الصفة الإعرابية، فأما الشرط والصفة الشرطية فلا خلاف فيهما بين الفقهاء‏.‏

وبالجملة، من سلم أن الجمل المعطوفة بالواو يعود الاستثناء إلى جميعها؛ كان ذكره لهذا الدليل مبطلاً لما سلمه، فلا يقبل منه، فإن تسليم الحكم مستلزم تسليم بطلان ما يدل على نقيضه، فلا يقبل منه دليل يدل على عدم عود الاستثناء إلى الجميع‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن قوله‏:‏ انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوع به، فممنوع، بل يجوز أن يعود الاستثناء إلى الجملة الأولى فقط، إذا دل على ذلك دليل، ويجوز للمتكلم أن ينوي ذلك ويقصده، وإن/كان حالفاً مظلوماً، فإنه لو قال‏:‏ قاتل أهل الكتاب وعادهم وأبغضهم إلا أن يعطوا الجزية؛ كان الاستثناء عائداً إلى الجملة الأولى فقط، وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏، وهذا الاستثناء في الظاهر عائد إلى الجملة الأولي‏.‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شيء ا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عليكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إليهمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 1ـ4‏]‏، وليس هذا مستثني مما يليه، بل من أول الكلام‏.‏

وقد قال جماعة من أهل العلم في قوله‏:‏ ‏{‏لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏‏:‏ إن ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ عائد إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏، ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ وهذا الاستثناء عائد إلى جملة بينها وبين الاستثناء جمل أخري‏.‏ والمقدم في القرآن، والمؤخر باب من العلم، وقد صنف فيه العلماء منهم الإمام أحمد وغيره، وهو متضمن هذا‏.‏ وشبهه أن يكون الاستثناء مؤخراً في اللفظ مقدماً في النية‏.‏

ثم التقديم والتأخير في لغة العرب، والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة معترضة وبين غيرهما، لا ينكره إلا من لم يعرف اللغة، وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 72، ، 73‏]‏، فقوله‏:‏ ‏{‏أَن يُؤْتَى‏}‏ من تمام قول أهل الكتاب، أي‏:‏ كراهة أن يؤتي، فهو مفعول ‏{‏تٍؤًمٌنٍوا‏}‏، وقد فصل بينهما بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ‏}‏ وهي جملة أجنبية، ليست من كلام أهل الكتاب، فأيما أبلغ الفصل بين الفعل والمفعول أو بين المستثني والمستثني منه‏؟‏ ‏!‏ وإذا لم يكن عود الاستثناء إلى الأخيرة مقطوعاً به لم يجب عود الاستثناء إليها، بل ربما كان في سياقه ما يقتضي أن عوده إلى الأولى أوكد‏.‏ ومسألتنا من هذا الباب ـ كما تقدم‏.‏

الثالث‏:‏ قوله‏:‏ إذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصاً ولم يثبت ما يغيره وجب تقرير الاستحقاق‏.‏

قلنا أولاً‏:‏ مسألتنا ليست من هذا الباب، فإن قوله‏:‏ على أولاده، ثم على أولادهم، ليس نصاً في ترتيب الطبقة على الطبقة، فإنه صالح لترتيب الأفراد على الأفراد، لكن هذا يجب في خصوص مسألتنا مع من يريد أن يدخلها تحت عموم هذا الكلام، ثم من يقول من راس‏:‏ لا نسلم ثبوت الاستحقاق بلفظ الواقف نصاً في شيء من الصور التي يعقبها استثناء أو شرط، فإن اللفظ إنما يكون نصاً إذا لم يتصل بما يغيره، والتغيير محتمل، فشرط كونه نصاً مشكوك فيه، ومتى كان شرط/الحكم مشكوكاً فيه لم يثبت، فإنه لا نص مع احتمال التغيير، لا سيما مثل هذا الاحتمال القوي الذي هو عند أكثر العلماء راجح‏.‏

فإن قال‏:‏ المقتضي لدخولهم قائم، والمانع من خروجهم مشكوك فيه‏.‏

قلت‏:‏ على قول من يمنع تخصيص العلة لا أسلم قيام المقتضي لدخولهم، فإن المقتضي لدخولهم هو اللفظ الذي لم يوصل به ما يخرجهم، فلا أعلم أن هذا اللفظ لم يوصل به ما يخرجهم حتى أعلم أن هذا الاستثناء لا يخرجهم، وهذا الشرط مشكوك فيه‏.‏ وأما على قول من يقول بتخصيصها، فأسلم قيام المقتضي، لكن شرط اقتضائه عدم المانع المعارض‏.‏ وهنا ما يصلح أن يكون مانعاً معارضاً، فما لم يقم دليل يبقي صلاحه للمعارضة وإلا لم يعمل المقتضي عمله، والصلاح للمعارضة لا مزية فيه‏.‏

وهذا البحث بعينه ـ وهو بحث القائلين بعود الاستثناء إلى جميع الجمل مع القاصرين على الجملة الأخيرة‏.‏ ثم يقول من راس‏:‏ إذا قال ـ مثلاً ـ‏:‏ وقفت على أولادي، ثم على الفقراء إلا الفساق ـ المنازع يقول‏:‏ ولدي نص في أولاده، والفساق يجوز أن يختص بالفقراء‏.‏

فنقول له‏:‏ هذا معارض بمثله، فإن الفساق نص في جميع الفساق، فإنه اسم جمع معرف باللام، وإذا كان عاماً وجب شموله لكل فاسق، فدعوي اختصاصه بفساق الفقراء دون الأولاد يحتاج إلى مخصص، /فليست المحافظة على عموم الأولاد لعدم العلـم بالتخصيص بأولى من المحافظة على عموم الفساق لعدم العلم بالمخصص، بل الراجح إخراجهم لأسباب‏:‏

أحـدها‏:‏ أن الأصل عدم دخولهم في الوقف، وقـد تعارض عمومان في دخولهم وخروجهم، فيسلم النافي لدخولهم عن معارض راجح‏.‏

الثاني‏:‏ أنا قد تيقنا خروجهم من إحدى الجملتين، فكان إحدى العمومين المعطوفين مخصوصاً، فإلحاق شريكـه في التخصيص أولى مـن إدخـال التخصيص على مـا ليس بشريكه‏.‏

الثالث‏:‏ أن المعطوف والمعطوف عليه بمنزلة الجملة الواحدة، فإذا ورد التخصيص عليها ضعفت، بخلاف عموم المستثني، فإنه لم يرد عليه تخصيص‏.‏

الرابع‏:‏ كون الفسق مانعاً يقتضي رجحانه عنـد الواقف على المقتضي للإعطاء، فإذا تيقنا رجحانه في موضع كان ترجيحه في موضع آخر أولى من ترجيح ما لم يعرف رجحانه بحال‏.‏

الخامس‏:‏ أن قوله‏:‏ نص الواقف، إن عني به ظاهر لفظه، فعود الاستثناء إلى جميع الجمل ظاهر لفظه ـ أيضاً ـ عند هذا القول، فلا فرق بينهما‏.‏ وإن عني به النص الذي لا يحتمل إلا معني واحداً، فمعلوم أن/كل لفظ يقبل الاستثناء، فلابد أن يكون إما عددًا أو عموماً، والعمومات ظواهر ليست نصوصًا‏.‏

السادس‏:‏ قوله‏:‏ لا يجوز تغييره بمحتمل متردد‏.‏ تقول بموجبه، فإن عود الاستثناء عندنا إلى جميع الجمل ليس بمحتمل متردد، بل هو نص أيضًا بالتفسير الأول‏.‏ والدليل على ذلك غلبته على الاستعمال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ‏}‏ ـ إلى قوله ـ‏:‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ‏}‏‏[‏الفرقان‏:‏ 68ـ71‏]‏، وهو عائد إلى قوله‏:‏ ‏{‏يَلْقَ‏}‏، و ‏{‏يُضَاعَفْ‏}‏، و ‏{‏وَيَخْلُدْ‏}‏‏.‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 159، 160‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ عليهمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 162‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏ 89‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عليهمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33، 34‏]‏، فهذا استثناء قد تعقب عدة جمل‏.‏

فإن معنى الجملة في هذا الباب هو اللفظ الذي يصح إخراج بعضه، وهو الاسم العام، أو اسم العدد، ليس معناه الجملة التي هي الكلام/ المركب من اسمين أو اسم فعل أو اسم وحرف، وقد ثبت بما روي عن الصحابة أن قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 34‏]‏، في آية القـذف عـائد إلى الجملتين، وقـال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يؤمـن الرجـل الرجـل في سلطانـه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى‏)‏‏.‏ وهذا كثير في الكتاب والسنة، بل من تأمل غالب الاستثناءات الموجودة في الكتاب والسنة التي تعقبت جملاً وجدها عائدة إلى الجميع ـ هذا في الاستثناء ـ فأما في الشروط والصفات فلا يكاد يحصيها إلا الله‏.‏

وإذا كان الغالب على الكتاب والسنة وكلام العرب عود الاستثناء إلى جميع الجمل، فالأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب؛ لأن الاستثناء إما أن يكون موضوعًا لهما حقيقة، فالأصل عدم الاشتراك، أو يكون موضوعًا للأقل فقط، فيلزم أن يكون استعماله في الباقي مجازًا، والمجاز على خلاف الأصل، فكثرته على خلاف الأصل، فإذا جعل حقيقة فيما غلب على استعماله فيه مجازًا فيما قل استعماله فإن قيل‏:‏ فقد قال به بعض الفقهاء من الحنفية والحنبلية، فهؤلاء يقولون به هنا‏؟‏ قلنا‏:‏ قد أسلفنا فيما مضى أن الضمير عائد إلى الجميع على أصول الجميع؛ لدليل دل على الرجوع من جهة كون الضمير حقيقة/في جميع ما تقدم، وأن هذا هو المفهوم من الكلام، ثم الذي يقول بهذا يفرق بين هذا وبين الطلاق من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الشرط في الطلاق متعلق بالفعل الذي هو وتلك الأسماء المعطوفة بعضها على بعض كلها داخلة في حيز هذا الفعل، وهي من جهة المعنى مفاعيل له، بمنزلة الشرط في القسم، فإنه إذا قال‏:‏ والله لأفعلن كذا، وكذا، ثم كذا ـ إن شاء الله؛ كان الشرط متعلقاً بالفعل في جواب القسم، والمفاعيل داخلة في مستثناه، وتناول الفعل لمفاعيله على حد واحد، فإذا كان قد قيد تناوله لها بقيد تقيد تناوله للجميع بذلك القيد؛ بخلاف قوله‏:‏ أنت طالق، ثم طالق ـ إن شاء زيد ـ فإن المتعلق بالشرط هنا اسم الفاعل، لا نفس المبتدأ، والخبر الثاني ليس بداخل في خبر الخبر الآخر، بل كلاهما داخل في خبر المبتدأ، فلهذا خرج هنا خلاف، وهذا فرق بين لمن تأمله‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن الشرط في الطلاق، وهو قوله‏:‏ إن دخلت الدار ليس فيه ما يوجب تعلقه بجميع الجمل، بخلاف قوله‏:‏ على أنه من مات منهم‏.‏ فإن الضمير يقتضي العود إلى جميع المذكور‏.‏

الثالث‏:‏ أن إحدى الجملتين في الطلاق لا تعلق لها بالأخرى، فإن/الطلقة تقع مع وجود الأولى وعدمها، فإذا علقت بالشرط لم تستلزم تعليق الأولى؛ لانفصـالها عنها‏.‏ وقد اعتقدوا أن ‏[‏ثم‏]‏ بمنزلة التراخي في اللفظ، فيزول التعلق اللفظي والمعنوي، فتبقى الجملة الأولى أجنبية عن الشرط على قولهم‏.‏ وأما قوله‏:‏ ثم على أولادهم‏.‏ فإنه متعلق بالجملة الأولى من جهة الضمير ومن جهة الوجود، ومن جهة الاستحقاق، فلا يصح اللفظ بهذه الجملة إلا بعد الأولى، ولا وجود لمعناها إلا بعد الأولى، ولا استحقاق لهم إلا بعد الأولى، سواء قدر التراخي في اللفظ أو لم يقدر فلا يمكن أن تجعل الأولى أجنبية عن الثانية حتى تعلق الثانية وحدها بالشرط‏.‏

والذي تحقق‏:‏ أن النزاع إنما هو في الطلاق فقط‏:‏ أنه لو قال‏:‏ والله لأضربن زيداً، ثم عمراً، ثم بكراً ـ إن شاء الله ـ عاد استثناء إلى الجميع‏.‏ فقوله‏:‏ وقفت على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم إن كانوا فقراء، أبلغ من قوله‏:‏ إن شاء الله، من حيث إن هنا تعلق الضمير‏.‏

الوجه الثامن‏:‏ أن هذا الفرق الذي ذكره بعض الفقهاء بين العطف بالحرف المرتب والحرف الجامع إنما ذكره في الاستثناء، ثم قال‏:‏ وكذلك القول في الصفة، والصفة إذا أطلقت فكثيراً ما يراد بها الصفة الصناعية النحوية‏.‏ وهو الاسم التابع لما قبله في إعرابه، مثل أن تقول‏:‏ /وقفت على أولادي، ثم على الفقراء العدول، فإن اختصاص الجملة هنا بالصفة الآخرة قريب، ومسألتنا شروط حكمية، وهي إلى الشروط اللفظية أقرب منها إلى الاستثناء، وإن سميت صفات من جهة المعنى‏.‏

والدليل على أنه قصد هذا، أنه قال‏:‏ وإن كان العطف بالواو ولا فاصل، فمذهب الشافعي رجوع الاستثناء إلى الجميع، وكذلك القول في الصفة، فعلم أنه قصد أن هذا مذهب الشافعي مشيراً إلى خلاف أبي حنيفة؛ فإنه إنما يعيد ذلك إلى الجملة الأخيرة، وهذا إنما يقوله أبو حنيفة في الاستثناء والصفات التابعة، لا يقوله في الشروط والصفات التي تجرى مجرى الشروط، فصار هنا أربعة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ الاستثناء بحرف ‏[‏إلا‏]‏ المتعقب جملاً، والخلاف فيه مشهور‏.‏

الثاني‏:‏ الاستثناء بحروف الشرط، فالاستثناء هنا عائد إلى الجميع‏.‏

الثالث‏:‏ الصفات التابعة للاسم الموصوف بها وما أشبهها وعطف البيان، فهذه توابع مخصصة للأسماء المتقدمة، فهي بمنزلة الاستثناء‏.‏

الرابع‏:‏ الشروط المعنوية بحرف الجر، مثل قوله‏:‏ على أنه، أو تشرط أن يفعل‏.‏ أو بحروف العطف، مثل قوله‏:‏ ومن شرطه كذا، /ونحو ذلك، فهذه مثل الاستثناء بحروف الجزاء‏.‏ والضابط أن كل ما كان من تمام الاسم فهو من جنس الاستثناء بإلا، وكلما كان متعلقاً بنفس الكلام وهو النسبة الحكمية التي بين المبتدأ والخبر وبين الفعل والفاعل، فهو في معنى الاستثناء بحرف الشرط‏.‏ ومعلوم أن حروف الجر وحروف الشرط المتأخرة إنما تتعلق بنفس الفعل المتقدم، وهو قوله‏:‏ وقفت‏.‏ وهو الكلام، والجملة والاستثناء والبدل والصفة النحوية وعطف البيان متعلق بنفس الأسماء التي هي مفاعيل هذا الفعل‏.‏

ويجوز كلام من فرق على جمل أجنبيات مثل أن تقول‏:‏ وقفت على أولادي، ثم على ولد فلان، ثم على المساكين، على أنه لا يعطي منهم إلا صاحب عيال، ففي مثل هذا قد يقوى اختصاص الشرط بالجملة الأخيرة؛ لكونها أجنبية من الجملة الأولى، ليست من جنسها، بخلاف الأولاد وأولاد الأولاد، فإنهم من جنس واحد‏.‏

وحمل الكلام على أحد هذين المعنيين أو نحوهما متعين مع ما ذكرنا من دليل إرادة ذلك، على أنه لو كان فيه تخصيص لكلامه، فإنه واجب لما ذكرناه، فإنه إذا كان قد جاء إلى كلام الأئمة الذين قالوا‏:‏ الاستثناء أو الصفة إذا تعقب جملاً معطوفاً بعضها على بعض عاد إلى جميع الجمل‏.‏ فخص ذلك ببعض حروف العطف لما رآه من الدليل، فلأن نخص نحن كلامه بما ذكرناه من نصوص كلامهم/الموجب للتسوية بين الواو و‏[‏ثم‏]‏ بطريق الأولى، فإن سلم أن كلامه محمول على ما ذكرناه وإلا تكلمنا معه بالوجه التاسع‏.‏

وهو أن هذا الفرق المدعي بين الحرف الجامع جمعاً مطلقاً والحرف المرتب فرق لا أصل له في اللغة، ولا في العرف، ولا في كلام الفقهاء، ولا في كلام الأصوليين، ولا في الأحكام الشرعية، والدليل المذكور على صحته فاسد، فيجب أن يكون فاسداً‏.‏

أما الأول، فإن أهل اللغة قالوا‏:‏ حروف العطف هي التي تشرك بين ما قبلها وما بعدها في الإعراب، وهي نوعان‏:‏ نوع يشرك بينهما في المعنى ـ أيضاً، وهي‏:‏ الواو والفاء وثم، فأما ‏[‏الواو‏]‏ فتدل على مطلق التشريك والجمع، إلا عند من يقول‏:‏ إنها للترتيب‏.‏ وأما ‏[‏ثم‏]‏، فإنها تدل على مطلق الترتيب‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنها للتراخي‏.‏ وأما الفاء، فإنها تدل على نوع من الترتيب، وهو التعقيب‏.‏ فهذه الحروف لا يخالف بعضها بعضاً في نفس اجتماع المعطوف والمعطوف عليه في المعنى، واشتراكهما فيه، وإنما تفترق في زمان الاجتماع‏.‏

فلو قيل‏:‏ إن العطف بالواو يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فيما يلحق الجمل من استثناء ونعت ونحو ذلك، والعطف بثم لا يقتضي اشتراكهما في هذه اللواحق، للزم من ذلك ألا تكون، ثم/مشتركة حيث تكون الواو مشتركة، ومعلوم أن هذا مخالف لما عليه أهل اللغة، بل هو خلاف المعلوم من لغة العرب‏.‏ والأحكام اللغوية التي هي دلالات الألفاظ تستفاد من استعمال أهل اللغة والنقل عنهم، فإذا كان النقل والاستعمال قد اقتضيا أنهما للاشتراك في المعنى؛ كان دعوى انفراد أحدهما بالتشريك دون الآخر خروجاً عن لغة العرب وعن المنقول عنهم‏.‏

وأما العرف، فقد أسلفنا أن الناس لا يفهمون من مثل هذا الكلام إلا عود الشرط إلى الجميع، والعلم بهذا من عرف الناس ضروري‏.‏ وأما كلام العلماء من الفقهاء والأصوليين، فإنهم تكلموا في الاستثناء المتعقب جملاً، فقال قوم‏:‏ إنه يعود إلى جميعها‏.‏ وقال قوم‏:‏ يعود إلى الأخيرة منها‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن كان بين الجملتين تعلق عاد الاستثناء إلى جميعها، وإن كانتا أجنبيتين عاد إلى الأخيرة‏.‏ ثم فصلوا الجمل المتعلق بعضها ببعض من الأجنبية، وذكروا عدة أنواع من التفصيل‏.‏ وقال قوم‏:‏ العطف مشترك بين الجميع‏.‏ وقال قوم‏:‏ بالوقف في جميع هذه المذاهب‏.‏ ثم ليس أحد من هؤلاء فرق بين العطف بالواو والفاء أو ثم، بل قولهم المعطوف بعضها على بعض يعم الجميع‏.‏

وكذلك الفقهاء ذكروا هذا في باب ‏[‏الإيمان‏]‏، وباب ‏[‏الوقف‏]‏ ثم بنوه على أصلهم، فقالوا‏:‏ الاستثناء أو الوصف إذا تعقب جملاً عاد/ إلى جميعها أو إلى بعضها‏.‏ وقد اعترف من فصل‏:‏ بأن الأئمة أطلقوا هذا الكلام، وأنه هو الذي فصل، فلا يجوز أن ينسب إلى الأئمة إلا ما قالوه‏.‏

وأما الأحكام، فإنه لو قال‏:‏ والله لأضربن زيداً، ثم عمراً، ثم بكراً ـ إن شاء الله‏.‏ عاد الاستثناء إلى الجميع‏.‏ وكذلك لو قال‏:‏ الطلاق يلزمنى لأضربن هذا، ثم هذا، ثم هذا‏.‏ أو قال‏:‏ لآخذن المُدْيَة، لأذبحن الشاة، لأطبخنها، إلى غير ذلك من الصور‏.‏

وأما ما استدل به، فإنه قال‏:‏ إذا كان العطف بما يقتضي ترتيبها، فالصرف إلى جميع المتقدمين فيه بعض النظر والغموض، فإن انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوع به، وانعطافه على جميع السابقين‏.‏ والعطف بالحرف المرتب محتمل، غير مقطوع به، وإذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصاً ولم يثبت ما يغيره؛ وجب تقرير الاستحقاق، ولم يجز تغييره لمحتمل متردد، فنقول‏:‏ الجواب من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن هذا بعينه موجود في العطف بالواو، فإن انعطافه على جميع السابقين محتمل غير مقطوع، سواء كان العطف بحرف مرتب أو مشترك غير مرتب، وهذا بعينه دليل من أوجب قصر الاستثناء على الجملة الأخيرة فيه؛ كنا قد عملنا بالأصل النافي للاشتراك، وبالأصل النافي للمجاز في صور التفاوت، وهو أولى من تركه مطلقًا‏.‏

/وإذا ثبت أن عود الاستثناء إلى جميع الجمل نص بمعني أنه ظاهر اللفظ فهو المطلوب، وليس الغرض هنا تقرير هذه المسألة، وإنما الغرض التنبيه على مواضع المنع‏.‏

وهذا البحث الذي ذكره وارد في كل تخصيص متصل، فإنه ليس المحافظة على عموم المخصوص بأولى من المحافظة على عموم المخصص، بل هذا أولي؛ لأنه عام باق على عمومه؛ ولأن ذكر التخصيص عقب كل جملة مستقبح، فلو قال‏:‏ وقفت على أولادي على أنه من مات منهم عن ولد أو عن غير ولد‏.‏ كان نصيبه لولده أو لذوي طبقته، ثم على ولد ولدي على هذا الشرط، ثم على ولد ولد ولدي على هذا الشرط‏.‏ لعد هذا من الكلام الذي غيره أفصح منه وأحسن‏.‏

ثم يقال لمن نازعنا‏:‏ ومعلوم قطعًا أن عامة الواقفين يقصدون الاشتراط في جميع الطبقات، ولا يعبرون بهذه العبارة المستغربة، بل يقتصرون على ما ذكره أولاً، فلولا أن ذلك كافٍ في تبليغ ما في نفوسهم لما اقتصروا عليه، والله يشهد ـ وكفي بالله شهيدًا ـ أنا نتيقن أن الكلام في مسألتنا يقيني، وأنه ليس من مسالك المظنون، لكن في قدرة الله ـ سبحانه ـ أن يجعل اليقين عند قوم جهلاً عند آخرين، ويعد الكلام على هذا تكلفًا‏.‏ ولولا أن الحاجة مست إلى ذلك بظن من يظن أن لمن ينازع في هذه المسألة متعلقًا، أو أنها مسألة من مسائل الاجتهاد لما أطلنا هذه الإطالة‏.‏

/فإن قيل‏:‏ الذي يرجح عود الضمير إلى الجملة الأخيرة هنا‏:‏ أن الجملة الأخيرة عطفت بالواو، وعطف عليها بالواو، فاقتضي ذلك مخالفتها لحكم الأولى في الترتيب؛ إذ الوقف هاهنا مشترك بين البطون، فلم يبق بينها وبين الأولى من الأحكام إلا مسمي الوقفية على الجميع، والكيفية مختلفة، فاقتضي ذلك استقلالها بنفسها، واختصاصها بما يعقبها، فإنه إذا تخلل الجمل ال

فصل بشرط كل جملة أوجب ذلك اختصاص الشرط الأخير، وما ذاك إلا لاختلاف الأحكام حينئذ‏.‏ والاختلاف موجود هاهنا‏.‏

قيل عنه وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن قوله‏:‏ عطفت بالواو، وعطف عليها بالواو‏.‏ يقتضي أنها هي لفظ النسل، فـإن كان لفظ النسل والعقب بمعني واحـد، فلم يعطف عليها في المعنى شيء‏.‏ وإن كـانا بمعنيين فيجب أن يكون الضمير عائدًا إلى الجملة المعطوفة؛ لا المعطوف عليها‏.‏

الثاني‏:‏ قوله‏:‏ فاقتضي ذلك مخالفتها للأولى في حكم الترتيب‏.‏ قد تقدم منع ذلك، وذكرنا أن من الفقهاء من يجعل هذا الوقف مرتبًا إلى يوم القيامة، فإن قوله‏:‏ ثم على أولاد أولاده، ونسله وعقبه‏.‏ لم يتعرض فيه للترتيب بنفي ولا إثبات، لكن لما كان الأصل عدم الترتيب نفيناه عند الانطلاق، /فلما رتب هنا في كلامه الأول ـ مع العلم بأن العاقل لا يفرق في مثل هذا، بل يكتفي بما ذكره أولاً ـ كان إعادة الشرط تسمح؛ ولكن غرضنا هنا تقرير هذا‏.‏

الثالث‏:‏ لو سلمنا أنه يوجب الاشتراك بين المعطوف، فلا يوجب ذلك اختلافهما في الحكم الذي اشتركا فيه بحرف العطف، فإن غاية ما في هذا أنه جعل البطن الرابع وما بعده طبقة واحدة، كما جعل في البطن الأول ولد الكبير والصغير، والولد الكبير والصغير طبقة واحدة، ولم يرتب بعضهم على بعض باعتبار الأسنان، فقوله‏:‏ فاقتضي ذلك مخالفتها لحكم الأولى في الترتيب‏.‏ فيه إبهام، فإنه إن عني به أن هذه الجملة بالنسبة إلى أفرادها مخالفة لتلك الجمل، فليس كذلك، بل جملة، فإنها حاوية لأفرادها على سبيل الاشتراك، لا على سبيل الترتيب‏.‏ وإن عني به أن هذه الجملة لم يرتب عليها غيرها، فالجملة الأولى لم تترتب على غيرها، وهذا إنما جاء من ضرورة كونها آخر الجمل، وليس ذلك بفرق مؤثر، كما لم يكن كون الأولى غير مرتبة فرقًا مؤثرًا‏.‏

وإن عني به أن هـذه الجملة مشتملة على طبقات متفاوتة بخـلاف الجمل الأولي، فذلك فرق لا يعود إلى دلالة اللفظ ولا إلى الحكم المدلول عليه باللفظ، مع أن الجمل الأولى قد يحصل فيها من التفاوت أكثر من ذلك، فقد يكون أولاد الأولاد عشرين بين الأول والآخر سبعون سنة، ويكون للأول/أولاد قبل وجود إخوته فيموت أولاده، وأولاد أولاده، وأولاد أولاد أولاده قبل انقراض إخوته، وربما لم يكن قد بقي من النسل والعقب إلا نفر يسير، فينقرضون، ثم هذه فروق عادت إلى الموجود، لا إلى دلالة اللفظ‏.‏

الرابع‏:‏ قوله‏:‏ فلم يبق بينها وبين الأولى من الأحكام إلا مسمي الوقفية‏.‏ قيل‏:‏ ليس بينهما فرق أصلاً، بل تناول الجملة الأولى لأفرادها كتناول الثانية لأفرادها، لكن الجملة الثانية أكثر في الغالب، وهذا غير مؤثر‏.‏ وقوله‏:‏ الكيفية مختلفة‏.‏ ممنوع، فإن كيفية الوقف على الأولاد مثل كيفية الوقف على النسل والعقب، يشترك هؤلاء فيه، وهؤلاء فيه‏.‏

الخامس‏:‏ لو سلم أن بينهما فرقًا خارجًا عن دلالة اللفظ، فذلك لا يقدح في اشتراكهما في العطف، فإن هذا الاختلاف في الكيفية لو كان صحيحًا كان بمنزلة قوله‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏، فإن ذوق الميت يختلف اختلافًا متباينًا، لكن هذا الاختلاف لا دلالة للفظ عليه، فلم يمنع من الاشتراك الذي دل عليه العموم‏.‏

السادس‏:‏ أن الكيفية المختلفة مدلول عليها بالعطف، وذلك لا يوجب الاستقلال والاختصاص بما يعقبها، كما لو قال‏:‏ وقفت على أولادي الذكور والإناث، وأولادي بني، وأولاد أولاد أولادي، على أنه من توفى منهم، /وإنما الفصل الذي يقطع الثانية عن الأولى أن يفصل بين الجملتين بشرط، مثل أن يقول‏:‏ وقفت على أولادي على أن يكونوا فقراء، ثم على أولاد أولادي على أن يكونوا عدولا‏.‏ فإن الشرط الثاني مختص عما قبله؛ لكون الأول قد عقب بشرطه، والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بشرط يفصله عن مشاركة الثاني في جميع أحكامه، بخلاف ما إذا كان الاختلاف من غير فصل لفظي‏.‏

السابع‏:‏ قولـه‏:‏ وما ذاك إلا لاختلاف الأحكام‏.‏ قـلنا‏:‏ لا نسلـم، بـل إنمـا ذاك لأجـل الفصول اللفظية المانعة من الاشتراك فيما ذكر من الأحكام للفظ‏.‏ أما إذا كان الفرق بين المعطوف والمعطوف عليه لمعني يرجع إلى لفظ المعطوف، فهذا شأن كل معطوف ومعطوف عليه من جنسين، وفرق بين أن يفصل بين الجملتين بشرط مذكور، وبين أن يكون مفهوم لفظ إحدى الجملتين غير مفهوم الأخري‏.‏ وهذا بين لمن تدبره‏.‏

فإن قيل‏:‏ هنا مرجح ثان، وهو أن جعله مختص بالجملة الأخيرة يفيد ما لم يدل اللفظ عليه، وهو منع اشتراك النسل في نصيب من مات عن غير ولد، فإنه لولا هذا الشرط لاشتركوا في جميع حقهم المتلقي عمن فوقهم، وعمن مات عن ولد أو غير ولد، بخلاف ما إذا عاد إلى جميع/ الجمل فإنه يكون مؤكدًا فقط؛ فإنا كنا نجعل نصيب الميت عن غير ولد لطبقته‏.‏

قيل عنه وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنا قدمنا أن هذه الفائدة باطلة، فإن العاقل لا يقول‏:‏ هؤلاء أعلاهم وأسفلهم مشتركون في الوقف، فمن مات عن غير ولد اختص بنصيبه إخوته، دون آبائه وأعمامه‏.‏ ومن مات عن ولد لم يختص بنصيبه أحد، لا ولده ولا غيره، فإن هذا لم يفعله أحد، ولا يفعله من يستحضره فإنه بمنزلة من يقول‏:‏ أعطوا البعيد منى ومن الميت، واحرموا القريب منى ومن الميت‏.‏ وقول القائل‏:‏ يقصد مثل هذا في العادات، فما علمنا أحدًا قصد هذا‏.‏

الثاني‏:‏ أنا قد منعنا كون هذا مقتضاه التشريك، فتبطل الفائدة‏.‏

الثالث‏:‏ أن في عوده إلى جميع الجمل فوائد‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يدل بنطقه على نقل نصيب الميت عن غير ولد إلى ذوي طبقته، وتنبيهه الذي هو أقوي من النطق على نقل نصيب المتوفي عن ولد إلى ولده، كما تقدم ذكره‏.‏

/الفائدة الثانية‏:‏ أن قوله‏:‏ على أولاده، ثم أولاد أولاده ـ إلى قوله ـ‏:‏ دائمًا ما تناسلوا، وأبدًا ما تعاقبوا‏.‏ يقتضي استحقاق ذريته للوقف، فإذا مات الميت وليس له إلا ذوي طبقته، وأولاد أولاده؛ أفاد الشرط إخراج الطبقة، فيبقي الأولاد داخلين في اللفظ الأول مع الثاني‏.‏ فمجموع قوله‏:‏ على أولادي ثم أولادي، مع قوله‏:‏ على أن نصيب الميت عن غير ولد ينتقل إلى إخوته‏.‏ دلنا على أن نصيب الميت عن ولد ينتقل إلى ولده؛ لأنهم في عموم قوله‏:‏ أولاد أولادي، ودخلت الطبقة في العموم، فلما خرجت الطبقة بالشرط بقي ولد الولد‏.‏ وهكذا كل لفظ عام لنوعين أخرج أحدهما فإنه يتعين الآخر‏.‏ وهذه دلالة ثانية على انتقال نصيب الميت عن ولد إلى ولده من جهة اللفظ العام الذي لم يبق فيه إلا هم، وهي غير دلالة التنبيه‏.‏

وإن شئت عبرت عن ذلك بأن تقول‏:‏ نصيب الميت إما للأولاد، أو لأولاد الأولاد، كما دل على انحصار الوقف فيهما قوله‏:‏ على أولادي، ثم على أولادهم‏:‏ فكما منع الأولاد أن ينتقل إليهم نصيب الميت عن ولد؛ تعين أن يكون للنوع الآخر‏.‏

يبقي أن يقال‏:‏ فقد يكون هناك من ليس من الطبقة، ولا من الولد‏.‏ قلنا‏:‏ إذا ظهرت الفائدة في بعض الصور حصل المقصود، وهي صورة مسألتنا، فإنا لم نتكلم إلا في نصيب الميت‏:‏ هل يصرف إلى إخوته أو ولده‏؟‏ /أما لو كان للميت عم ـ مثلاً ـ فنقول‏:‏ حرمان طبقة الميت تنبيه على حرمان من هم أبعد عنه، فإن طبقته لم يحرمهم لبعدهم من الوقف، فإن الولد أبعد منهم‏.‏ وقد بينا أن ذلك يقتضي إعطاء الولد في أكثر الصور، فعلم أنه حرمهم لبعدهم عن الميت‏.‏ وهذا المعني في أعمام الميت أقوي، فيكونون بالمنع مع الولد أحرى‏.‏

الفائدة الثالثة‏:‏ أنه دليل على أنه قصد ترتيب الأفراد على الأفراد، لا ترتيب المجموع على المجموع، كما لو قال‏:‏ على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذا حمل اللفظ الواحد على مفهومين مختلفين، فإن فائدته في الأول بيان ترتيب الأفراد على الأفراد، وفي الثاني بيان اختصاص الطبقة بنصيب المتوفى، فمن منع من أن يراد باللفظ الواحد حقيقتان، أو مجازان، أو حقيقة ومجاز يمنع منه، ومن جوزه‏.‏ قلنا‏:‏ على هذا التقدير إذا ثبت أمر بلفظ الواقف نصًا لم يجز تغييره بمحتمل متردد‏.‏ قيل‏:‏ هذا السؤال ضعيف جدًا لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن مورده جعله مقررًا لوجه ثان في بيان عود الضمير إلى الجملة الأخيرة، غير ما ذكر أولاً عن عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، ثم إنه في آخر الأمر ـ على قول المجوزين لأن يراد باللفظ الواحد معنياه ـ اعتمد على ذلك الجواب، فما صار وجهًا آخر‏.‏

/الثاني‏:‏ أنا نقول‏:‏ هذا مبني على أن الشرط أفاد في الطبقة الأخيرة عدد نصيب المتوفى عن غير ولد إلى ذوي طبقته، والمتوفى عن ولد يشترك فيه جميع الطبقة، وهذا ممنوع من وجهين تقدمًا‏.‏

الثالث‏:‏ لو سلمنا ذلك، فليس هذا من باب استعمال اللفظ في معنيين مختلفين، إنما هو من باب استعمال اللفظ الواحد في معني واحد، وذلك معدود من الألفاظ المتواطئة، وذلك أن فـائدة اللفظ بمنطوقـه نقل نصيب المتوفى عـن غير ولد إلى طبقتـه، وهـذه فـائـدة متجددة في جميع الجمل، ثم إن تقيد الانتقال إلى الطبقة بوجود الولد دليل على أنه عنا ترتيب الأفراد، وهذه دلالة لزومية، واللفظ إذا دل بالمطابقة على معني وبالالتزام على معنى آخر لم يكن هذا من القسم المختلف فيه، كعامة الألفاظ، فإن كونه دليلاً على ترتيب الأفراد إنما جاء من جهة أنه شرط في استحقاق الطبقة نصيب المتوفى عدم ولده، ثم علم بالعقل أنه لو قصد ترتيب المجموع لم يشرطه بهذا الشرط، فإن ترتيب المجموع واشتراط هذا الشرط متنافيان، وكون هذين المعنيين يتنافيان قضية عقلية فهمت بعد تصور كل واحد من المعنيين؛ لأن أحد اللفظين دل عليهما بالوضع، وهذا كما فهموا من قوله‏:‏ ‏{‏وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏، مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، أن أقل الحمل ستة أشهر، ونظائره كثيرة‏.‏

/الرابع‏:‏ لو فرض أن هذا من باب ‏[‏استعمال اللفظ الواحد في معنييه‏]‏، فلا نسلم أن منع ذلك هو الحق، بل ليس ذلك مذهب أحد من الأئمة المعتبرين، وإنما هو قول طائفة من المتكلمين، والذي يدل عليه كلام عامة الصحابة والتابعين وعامة الفقهاء وعامة أهل اللغة وأكثر المتكلمين جواز ذلك، فلم لا يجوز أن يحمل كلامه على ما يعتقد هو صحته ويناظر عليه‏؟‏ ‏!‏

الخامس‏:‏ أن ما ادعوه من أن النص لا يدفع بمحتمل، تقدم جوابه، وبينا أنه لا نص هنا، بل يدفع المحتمل بالنص، وذكرنا أن هذا البحث هو المنصوص عن الأئمة الكبار‏.‏

الفائدة الرابعة‏:‏ أنه قصد بهذا الشرط نفي انقطاع الوقف، ونفي اشتراك جميع أهل الوقف في نصيب المتوفى عن غير ولد، ونبه بذلك على أنه عني بقوله‏:‏ عن ولده‏.‏ ترتيب الأفراد‏.‏

فإن قيل‏:‏ عوده إلى جميع الجمل يوجب انقطاع الوقف في الوسط، فحمل اللفظ على ما ينفي الانقطاع أولي؛ لأن من مات عن ولد لا يصرف نصيبه إلى الطبقة عملاً بموجب الشرط، ولا إلى الولد عملاً بموجب الترتيب المطلق‏.‏

فإن قلتم‏:‏ إذا جعلناه مبنيا لترتيب الأفراد لم يكن موجبًا للانقطاع، /فنجيب عنه بالبحث المتقدم، وهو أن استحقاق الطبقة مستحق لظاهر اللفظ، فلا يترك بمتردد محتمل‏.‏

قيل أولاً‏:‏ هذا الوجه لا يتم إلا بهذا البحث، وهو إنما ذكر ليكون مؤيدًا له، والمؤيد للشيء يجب أن يكون غيره، ولا يكون معتمدًا عليه، فإذا كان الوجه لا يتم إلا بذلك البحث كانت صحته موقوفة على صحته، والفرع لا يكون أقوي من أصله، ولا يكسبه قوة، بل يكون تقوية ذلك الوجه به تقوية الشيء بنفسه، وهذا نوع من المصادرة‏.‏ وإذا كان هذا مبنيا على ذلك الوجه، وقد أجبنا عنه ـ فيما مضي ـ فقد حصل الجواب عن هذا‏.‏

ثم نقول‏:‏ الانتفاع ينتفي من ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الوقف محصور في الأولاد ثم أولادهم، فإذا مات الميت عن ولد فنصيبه إما لإخوته، أو لبنيهم، أو لبنيه، أو لعمومته؛ لأن الشرط يقتضي انحصار الوقف في الأولاد، ثم أولاد الأولاد، وهم إما ذو طبقته، أو من هو أعلى منه، عمومته ونحوهم، فإنه لا يستحق شيئا مع وجود أبيه، ومن هو أسفل منه‏:‏ ولده وولد إخوته، وطبقتهم‏.‏ فأما طبقته فانتفوا بالقيد المذكور في استحقاقهم، وأما بنوهم فانتفوا لثلاثة أسباب‏:‏

/أحدها‏:‏ بطريق التنبيه، فإن أباهم أقرب إلى الميت وإلى الواقف، فإذا لم ينقل إلى الأقرب فإلى الأبعد أولى‏.‏

والثاني‏:‏ أنه سواء عني بالترتيب ترتيب المجموع، أو ترتيب الأفراد، لا يستحقون في هذه الحال، فإن الطبقة العليا لم تنقرض، وآباؤهم لم يموتوا‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم في هذه الحال ليسوا من أهل الوقف، ولم ينتقل إليهم ما هم أصل فيه، فلا ينتقل إليهم ما هم فروع فيه، وأما العمومة فإنه لا يتصور أن يستحق الميت شيئا مع وجود عمومته إلا على قولنا، ففرض هذه الصورة على رأي المنازع محال‏.‏ وإذا كان وجود العمومة مستلزمًا لصحة هذا القول، فمحال أنه يستلزم ذلك ما يفسده، فإن الشيء الواحد لا يستلزم صحة الشيء وفساده، لكن يقال‏:‏ قد كان الميت أولاً لم يخلف إلا أخوة وولدًا، ثم مات ولده عن ولد وأعمامه‏.‏ فنقول‏:‏ حرمان الإخوة مع الولد تنبيه على حرمان العمومة، وهذا حقيقة الجواب‏:‏ أن نفي إخوته تنبيه على نفي عمومته ـ كما تقدم‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ النافي للانقطاع ـ‏:‏ أن إعطاء الإخوة نصيب الميت دون سائر أهل الوقف تنبيه على إعطاء الولد ـ كما تقدم‏.‏

/الثالث‏:‏ أن ذلك دليل على أن الترتيب المتقدم؛ ترتيب الأفراد على الأفراد‏.‏ وقد قدمنا تقرير هذا‏.‏

والله ـ سبحانه ـ يوفقنا لما يحبه ويرضاه‏.‏ والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليمًا‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن وقف على أربعة أنفس‏:‏ عمرو، وياقوتة، وجهمة، وعائشة، يجري عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فمن توفى منهم عن ولد، أو ولد ولد، أو عن نسل وعقب وإن سفل، عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على ولده، ثم على ولد ولده، ثم على نسله وعقبه، ثم من بعده وإن سفل، بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ومن توفى منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد نصيبه وقفًا على إخوته الباقين، ثم على أنسالهم وأعقابهم بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، على الشرط والترتيب المقدم ذكرهما، فإذا لم يبق لهؤلاء الإخوة الموقوف عليهم نسل ولا عقب، أو توفوا بأجمعهم ولم يعقبوا ولا واحدًا منهم عاد ذلك وقفًا على الأسارى، ثم على الفقراء، ثم توفى عمر عن فاطمة، وتوفيت فاطمة عن عيناشي ابنة إسماعيل بن أبي يعلى، ثم توفيت عيناشي عن غير نسل ولا عقب، ولم يبق من ذرية / هؤلاء الأربعة إلا بنت إسماعيل بن أبي يعلى، وكلاهما من ذرية جهمة‏.‏ فهاتان الجهتان اللتان تليهما عيناشي بعد موت أبيها‏:‏ هل ينتقل إلى أختها رقية أو إليها، أو إلى ابنة عمها صفية‏؟‏

فأجاب‏:‏

هذا النصيب الذي كان لعيناشي من أمها ينتقل إلى ابنتي العم المذكورتين، ولا يجوز أن تخص به أختها لأبيها؛ لأن الواقف ذكر‏:‏ أن من توفى من هؤلاء الإخوة الموقوف عليهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد نصيبه وقفًا على إخوته، ثم على أنسالهم وأعقابهم على الشرط والترتيب المقدم ذكرهما‏.‏ وهذه العبارة تعم من انقطع نسله أولاً وآخرًا، فكل من انقطع نسله من هؤلاء الإخوة كان نصيبه لإخوته، ثم لأولادهم؛ لأن الواقف لو لم يرد هذا لكان قد سكت عن بيان حكم من أعقب أولاً ثم انقطع عقبه ولم يبين مصرف نصيبه، وذلك غير جائز؛ لأنه إنما نقل الوقف إلى الأسرى والفقراء إذا لم يبق له ولا لموقوف عليهم نسل ولا عقب، فمتى أعقبوا ـ ولو واحدًا منهم ـ لم ينتقل إلى الأسرى شيء، ولا إلى الفقراء، وذلك يوجب أن ينتقل نصيب من انقطع نسله منهم إلى الإخوة الباقين، وهو المطلوب‏.‏

وأيضًا، فإنه قسم حال المتوفى من الأربعة الموقوف عليهم إلى حالين‏:‏ إما أن يكون له ولد، أو نسل، وعقب، أو لا يكون، فإن كان له/ انتقل نصيبه إلى الولد، ثم إلى ولد الولد، ثم إلى النسل والعقب، وإن لم يكن انتقل إلى الإخوة، ثم إلى أولادهم، فينبغي أن يعم هذا القسم ما لم يدخل في القسم الأول ليعم البيان جميع الأحوال؛ لأنه هو الظاهر من حال المتكلم؛ ولأنه لو لم يكن كذلك لزم الإهمال والإلغاء وإبطال الوقف على قول، ودلالة الحال تنفي هذا الاحتمال‏.‏ وإذا عم ما لم يدخل في القسم الأول دخل فيه من لا ولد له ومن لا ولد لولده ومن لا عقب له، وإذا كان كذلك، فأي هؤلاء الأربعة لم يكن له عقب كان نصيبه لإخوته ثم لعقبه‏.‏

وأيضًا، فإن الواقف قد صرح بأن من مات منهم عن غير عقب انتقل نصيبه إلى إخوته، ثم إلى أولادهم‏.‏ وهذا المقصود لا يختلف بين ألا يخلف ولدًا أو يخلف ولدًا ثم يخلف ولده ولدًا، فإن العاقل لا يقصد الفرق بين هاتين الحالتين؛ لأن التفريق بين المتماثلين قد علم بمطرد العادة أن العاقل لا يقصده، فيجب ألا يحمل كلامه عليه، بل يحمل كلامه على ما دل عليه دلالة الحال والعرف المطرد إذا لم يكن في اللفظ ما هو أولى منه، وإذا كان انقطاع النسل أولاً وآخرًا سواء بالنسبة إلى الانتقال إلى الإخوة وجب حمل الكلام عليه‏.‏

واعلم أن من أمعن النظـر علم قطعًا أن الواقف إنما قصد هذا بدلالة الحال/واللفظ سائغ له، وليس في الكلام وجه ممكن هو أولى منه، فيجب الحمل عليه قطعًا‏.‏

وأيضًا، فإن الوقف يراد للتأبيد، فيجب بيان حال المتوفى في جميع الطبقات، فيكون قوله‏:‏ ومن توفى منهم عن غير ولد ولا ولد ولد، ولا نسل ولا عقب‏.‏ في قوة قوله‏:‏ ومن كان منهم ميتًا ولا عقب له؛ لأن عدم نسله بعد موته بمنزلة كونهم معدومين حال موته، فلا فرق في قوله هذا وقوله‏:‏ ومن مات منهم ولا ولد له، وقوله‏:‏ ومن مات منهم ولم يكن له ولد‏.‏ وهذه العبارة وإن كان قد لا يفهم منها إلا عدم الذرية حين الموت في بعض الأوقات، لكن اللفظ سائغ؛ لعدم الذرية مطلقًا، بحيث لو كان المتكلم قال‏:‏ قد أردت هذا لم يكن خارجًا عن حد الإفهام، وإذا كان اللفظ سائغًا له، ولم يتناول صورة الحادثة إلا هذا اللفظ، وجب إدراجها تحته؛ لأن الأمر إذا دار بين صورة يحكم فيها بما يصلح له لفظ الواقف ودلالة حاله وعرف الناس؛ كان الأول هو الواجب بلا تردد‏.‏

إذا تقرر هذا‏:‏ فعم جد عيناشي هو الآن متوفٍ عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب، فيكون نصيبه لإخوته الثلاثة على أنسالهم وأعقابهم‏.‏ والحال التي انقطع فيها نسله لم يكن من ذريته إلا هاتان المرأتان، فيجب أن تستويا في نصيب عيناشي‏.‏ وهكذا القول في كل واحد انقطع نسله، فإن نصيبه ينتقل إلى ذرية إخوته، إلا أن/ يبقي أحد من ذرية أبيهم الذي انتقل إليه الوقف منه، أو من ذرية أمه التي انتقل إليه الوقف منها، فيكون باقي الذرية هم المستحقين لنصيب أمهم أو أبيهم؛ لدخولهم في قوله‏:‏ فمن توفى منهم عن ولد أو ولد ولد‏.‏

واعلم أن الكلام إن لم يحمل على هذا كان نصيب هذا وقفًا منقطع الانتهاء؛ لأنه قال‏:‏ فمن توفى منهم عن ولد كان نصيبه لولده، ثم لولد ولده، ثم لنسله وعقبه‏.‏ ولم يبين بعد انقراض النسل إلى من يصير، لكن بين في آخر الشرط أنه لا ينتقل إلى الأسرى والفقراء حتى تنقرض ذرية الأربعة، فيكون مفهوم هذا الكلام صرفه إلى الذرية، وهاتان من الذرية، وهما سواء في الدرجة، ولم يبق غيرهما، فيجب أن يشتركا فيه، وليس بعد هذين الاحتمالين إلا أن يكون قوله‏:‏ ومن توفى منهم‏.‏ عائدًا إلى الأربعة وذريتهم‏.‏

فيقال حينئذ‏:‏ عيناشي قد توفيت عن أخت من أبيها وابنة عم، فيكون نصيبها لأختها، وهذا الحمل باطل قطعًا، لا ينفذ حكم حاكم إن حكم بموجبه؛ لأن الضمير أولاً في قوله‏:‏ فمن توفى منهم‏.‏ عائد إلى الأربعة، فالضمير في قوله‏:‏ ومن توفى منهم‏.‏ عائد ثانيا إلى هؤلاء الأربعة؛ لأن الرجل إذا قال‏:‏ هؤلاء الأربعة من فعل منهم كذا فافعل به كذا وكذا؛ ومن فعل منهم كذا فافعل لولده كذا، علم بالاضطرار أن الضمير الثاني هو الضمير الأول، ولأنه قال‏:‏ ومن توفى منهم عن غير ولد عاد نصيبه/ إلى إخوته الباقين‏.‏ وهذا لا يقال إلا فيمن له إخوة تبقي بعد موته، وأنا نعلم هذا في هؤلاء الأربعة؛ لأن الواحد من ذريتهم قد لا يكون له إخوة باقون، فلو أريد بذلك المعني لقيل‏:‏ على إخوته إن كان له إخوة‏.‏ أو قيل‏:‏ ومن مات منهم عن إخوة، كما قيل في الولد‏:‏ ومن مات منهم عن ولد‏.‏ وهذا ظاهر لا خفاء به‏.‏

وأيضًا، فلو فرض أن من مات من أهل الوقف عن إخوة كان نصيبه لإخوته، فإنما ذلك في الإخوة الذين شركوه في نصيب أبيه وأمه، لا في الإخوة الذين هم أجانب عن النصيب الذي خلفه ـ على ما هو مقرر في موضعه من كتب الفقه على المذاهب المشهورة ـ وهذا النصيب إنما تلقته عيناشي من أمها‏.‏ وأختها رقية أجنبية من أمها؛ لأنها أختها من أبيها فقط، فنسبة أختها لأبيها وابنة عمها إلى نصيب الأم سواء‏.‏ وهذا بين لمن تأمله‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عن واقف وقف وقفًا على ولديه‏:‏ عمر، وعبد الله، بينهما بالسوية نصفين، أيام حياتهما، أبدًا ما عاشا، دائمًا ما بقيا، ثم على أولادهما من بعدهما، وأولاد أولادهما، ونسلهما، وعقبهما، أبدًا ما تناسلوا، / بطنًا بعد بطن، فتوفى عبد الله المذكور وخلف أولادًا، فرفع عمر ولد عبد الله إلى حاكم يري الحكم بالترتيب، وسأله رفع يد ولد عبد الله عن الوقف، وتسليمه إليه، فرفع يد ولد عبد الله، وسلمه إلى عمر بحكم أنه من البطن الأول، فهل يكون ذلك الحكم جاريا في جميع البطون أم لا‏؟‏ ثم إن عمر توفى وخلف أولادًا، فوضعوا أيديهم على الوقف بغير حكم حاكم، فطلب ولد عبد الله من حاكم يري الحكم بالتشريك بينهم في الوقف تشريكهم؛ لأن الواقف جمع بين الأولاد والنسل والعقب في الاستحقاق بعد عبد الله وعمر ـ بالواو ـ الذي يقتضي التشريك؛ دون الترتيب‏.‏ وأن قوله‏:‏ بطنًا بعد بطن لا يقتضي الترتيب، فهل الحكم لهم بالمشاركة صحيح أم لا‏؟‏ وهل حكم الأول لعمر بالتقديم على ولد عبد الله مناقضًا للحكم بالتشريك بين أولاد عمر وأولاد عبد الله‏؟‏ وهل لحاكم ثالث أن يبطل هذا الحكم والتنفيذ‏؟‏

فأجاب‏:‏

مجرد الحكم لأحد الأخوين الأولين بجميع الوقف بعد موت أخيه المتوفى لا يكون جاريا في جميع البطون، ولا يكون حكمًا لأولاده بما حكم له به، فإن قوله‏:‏ ثم على أولادهما‏.‏ هل هو لترتيب المجموع على المجموع، أو لترتيب الأفراد على الأفراد، بحيث ينتقل نصيب كل ميت إلى ولده‏؟‏ فيه قولان للفقهاء‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ وأولادهما من بعدهما بطنًا بعد بطن‏.‏ هل هو للترتيب أو للتشريك‏؟‏ فيه قولان‏.‏ فإذا حكم الحاكم باستحقاق عمر الجميع بعد موت عبد الله كان هذا لاعتقاده/ لترتيب المجموع على المجموع، فإذا مات عمر فقد يري ذلك الحاكم الترتيب في الطبقة الأولى فقط، كما قد يشعر به ظاهر اللفظ، وقد يكون يري أن الترتيب في جميع البطون، لكن ترتيب الجميع على الجميع، ويشرك كل طبقة من الطبقتين في الوقف دون من هو أسفل منها، وقد يري غيره وأنه بعد ذلك لترتيب الأفراد، فإذا حكم حاكم ثان فيما لم يحكم فيه الأول بما لا يناقض حكمه لم يكن نقضًا لحكمه، فلا ينقض هذا الثاني إلا بمخالفة نص أو إجماع‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رَضي الله عَنهُ ـ عمن وقف وقفًا على ابن ابنه فلان، ثم على أولاده، واحدًا كان أم كثر، ثم على أولاد أولاده، ثم نسله، وعقبه‏.‏ فمن توفى منهم عن ولد أو ولد ولد أو عن نسل وعقب عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على من معه في درجته، فتوفى الأول عن أولاد، توفى أحدهم في حياته عن أولاد، ثم مات الأول وخلف بنته وولدي ابنه، فهل تأخذ البنت الجميع‏؟‏ أو ينتقل إلى ولدي الابن ما كان يستحقه أبوهما لو كان حيا‏؟‏

فأجاب‏:‏

بل النصيب الذي كان يستحقه محمد الميت في حياة أبيه لو عاش ينتقل إلى ولديه دون أخته، فإن الواقف قد ذكر أن قوله‏:‏ على/أولاده، ثم على أولاد أولاده، إنما أراد به ترتيب الأفراد على الأفراد لا ترتيب الجملة على الجملة بما بينه، وإن كان ذلك هو مدلول اللفظ عند الإطلاق على أحد القولين‏.‏

والحقوق المرتب أهلها شرعاً أو شرطاً إنما يشترط انتقالها إلى الطبقة الثانية عند عدم الأولي، أو عدم استحقاقها الاستحقاق الأولى أولاً، كما يقول الفقهاء في العصب بالميراث أو النكاح‏:‏ الابن، ثم ابنه، ثم الأب، ثم أبوه‏.‏ فاستحقاق ابن الابن مشروط بعدم أبيه؛ لعدم استحقاقه ـ لمانع يقوم به من كفر وغيره ـ لا يشترط أن أباه يستحق شيئاً لم ينتقل إليه، كذلك في الأم‏:‏ النكاح، والحضانة، وولاية غسل الميت، والصلاة عليه‏.‏

وإنما يتوهم من يتوهم اشتراط استحقاق الطبقة الأولى؛ لتوهمه أن الوقف ينتقل من الأولى إليها، وتتلقاه الثانية عن الأولي، كالميراث، وليس كذلك، بل هي تتلقي الوقف عن الواقف، كما تلقته الأولي، وكما تتلقي الأقارب حقوقهم عن الشارع، لكن يرجع في الاستحقاق إلى ما شرطه الشارع والواقف من الترتيب‏.‏

/ وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن وقف إنسان شيئاً على زيد، ثم على أولاد زيد الثمانية، فمات واحد من أولاد زيد الثمانية المعينين في حال حياة زيد، وترك ولداً، ثم مات زيد، فهل ينتقل إلى ولد ولد زيد ما استحقه ولد زيد لو كان حياً‏؟‏ أم يختص الجميع بأولاد زيد‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم يستحق ولد الولد ما كان يستحقه والده، ولا ينتقل ذلك إلى أهل طبقة الميت ما بقي من ولده وولد ولده أحد؛ وذلك لأن قول الواقف‏:‏ على زيد، ثم على أولاده، ثم أولاد أولاده فيه للفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم عند الإطلاق قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لترتيب الجملة على الجملة، كالمشهور في قوله‏:‏ على زيد وعمرو، ثم على المساكين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لترتيب الأفراد على الأفراد، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 12‏]‏، أي‏:‏ لكل واحد نصف ما تركته زوجته، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عليكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، أي‏:‏ حرمت على كل واحد أمه؛ إذ/ مقابلة الجمع بالجمع تقتضي توزيع الأفراد على الأفراد، كما في قوله‏:‏ لبس الناس ثيابهم، وركب الناس دوابهم‏.‏

وهذا المعني هو المراد في صورة السؤال قطعاً؛ إذ قد صرح الواقف بأن من مات من هؤلاء عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده، فصار المراد ترتيب الأفراد على الأفراد في هذه الصورة المقيدة بلا خلاف؛ إذ الخلاف إنما هو مع الإطلاق‏.‏

وإذا كان كذلك، فاستحقاق المرتب في الشرع والشرط في الوصية والوقف وغير ذلك، إنما يشترط في انتقاله إلى الثاني عدم استحقاق الأول، سواء كان قد وجد واستحق، أو وجد ولم يستحق، أو لم يوجد بحال، كما في قول الفقهاء في ترتيب العصبات، وأولياء النكاح، والحضانة وغيرهم، فيستحق ذلك الابن، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأب ثم أبوه وإن علا، فإن الأقرب إذا عدم أو كان ممنوعاً لكفر أو رق انتقل الحق إلى من يليه‏.‏ ولا يشترط في انتقال الحق إلى من يليه أن يكون الأول قد استحق‏.‏ وكذلك لو قال‏:‏ النظر في هذا لفلان، ثم لفلان، أو لابنه‏.‏ فمتى انتفي النظر عن الأول لعدمه أو جنونه أو كفره انتقل إلى الثاني، سواء كان ولداً أو غير ولد‏.‏ وكذلك ترتيب العصبة في الميراث، وفي الإرث بالولاء، وفي الحضانة، وغير ذلك‏.‏

/وكذلك في الوقف‏:‏ لو وقف على أولاده طبقة بعد طبقة عصبتهم، وشرط أن يكونوا عدولاً، أو فقراء أو غير ذلك، وانتفي شرط الاستحقاق في واحد من الطبقة الأولى أو كلهم؛ انتقل الحق عند عدم استحقاق الأولى إلى الطبقة الثانية إذا كانوا متصفين بالاستحقاق‏.‏

وسر ذلك‏:‏ أن الطبقة الثانية تتلقي الوقف من الواقف، لا من الطبقة الأولي، لكن تلقيهم ذلك مشروط بعدم الأولي، كما أن العصبة البعيدة تتلقي الإرث من الميت، لا من العاصب القريب، لكن شروط استحقاقه عدم العاصب القريب‏.‏ وكذلك الولاء ـ في القول المشهور عند الأئمة ـ يرث به أقرب عصبة الميت يوم موت المعتق؛ لأنه يورث كما يورث المال‏.‏

وإنما يغلط ذهن بعض الناس في مثل هذا حيث يظن أن الولد يأخذ هذا الحق إرثاً عن أبيه أو كالأرث، فيظن أن الانتقال إلى الثانية مشروط باستحقاق الأولي، كما ظن ذلك بعض الفقهاء، فيقول‏:‏ إذا لم يكن الأب قد ترك شيئاً لم يرثه الابن‏.‏ وهذا غلط؛ فإن الابن لا يأخذ ما يأخذ الأب بحال، ولا يأخذ عن الأب شيئاً؛ إذ لو كان الأب موجوداً لكان يأخذ الريع مدة حياته، ثم ينتقل إلى ابنه الريع الحادث بعد موت الأب، لا الريع الذي يستحقه، وأما رقبة الوقف فهي باقية على حالها‏:‏ حق الثاني فيها في وقته نظير حق الأول في وقته، لم ينتقل إليهم إرثاً‏.‏

/ولهذا اتفق المسلمون في طبقات الوقف‏:‏ أنه لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضهم لم يلزم حرمان الطبقة الثانية إذا كانت الشروط موجودة فيهم؛ وإنما نازع بعضهم فيما إذا عدموا قبل زمن الاستحقاق، ولا فرق بين الصورتين‏.‏

ويبين هذا‏:‏ أنه لو قيل بانتقال نصيب الميت إلى إخوته لكونه من الطبقة؛ كان ذلك مستلزماً لترتيب جملة الطبقة على الطبقة، أو أن بعض الطبقة الثانية أو كلهم لا يستحق إلا مع عدم جميع الطبقة الأولي‏.‏ ونص الواقف يبين أنه أراد ترتيب الأفراد على الأفراد؛ مع أنا نذكر في الإطلاق قولين‏:‏ الأقوي ترتيب الأفراد مطلقاً؛ إذ هذا هو المقصود من هذه العبارة، وهم يختارون تقديم ولد الميت على أخيه فيما يرثه أبوه، فإنه يقدم الولد على الأخ‏.‏ وإن قيل بأن الوقف في هذا منقطع، فقد صرح هذا الواقف بالألفاظ الدالة على الاتصال، فتعين أن ينتقل نصيبه إلى ولده‏.‏

وفي الجملة، فهذا مقطوع به، لا يقبل نزاعاً فقهياً، وإنما يقبل نزاعاً غلطاً‏.‏ وقول الواقف‏:‏ فمن مات من أولاد زيد، أو أولاد أولاده وترك ولداً، أو ولد ولد وإن سفل، كان نصيبه إلى ولد ولده، أو ولد ولد ولده‏.‏ يقال فيه‏:‏ إما أن يكون قوله‏:‏ نصيبه‏.‏ يعم النصيب الذي يستحقه إذا كان متصفاً بصفة الاستحقاق، سواء استحقه أو لم يستحقه، ولا يتناول إلا ما استحقه، فإن كان الأول فلا كلام وهو الأرجح؛ لأنه بعد موته ليس هو في هذه الحال مستحقاً له؛ ولأنه لو كان الأب ممنوعاً لانتفاء/صفة مشروطة فيه ـ مثلاً ـ مثل أن يشترط فيهم الإسلام أو العدالة أو الفقر؛ كان ينتقل مع وجود المانع إلى ولده، كما ينتقل مع عدمه، ولأن الشيء يضاف إلى الشيء بأدني ملابسة، فيصدق أن يقال‏:‏ نصيبه بهذا الاعتبار؛ ولأن حمل اللفظ على ذلك يقتضي أن يكون كلام الواقف متناولاً لجميع الصور الواقعة، فهو أولى من حمله على الإخلال بذكر البعض؛ ولأنه يكون مطابقاً للترتيب الكلامي، وليس ذلك هو المفهوم من ذلك عند العامة الشارطين مثل هذا‏.‏

وهذا ـ أيضاً ـ موجب الاعتبار والقياس النظري عند الناس في شروطهم إلى استحقاق ولد الولد الذي يكـون يتيماً لم يـرث هـو وأبـوه مـن الجـد شيئًا، فيري الواقف أن يجبره بالاستحقاق حينئذ، فإنه يكون لاحقاً فيما ورث أبوه من التركة وانتقل إليه الإرث، وهذا الذي يقصده الناس موافق لمقصود الشارع ـ أيضاً؛ ولهذا يوصون كثيرآً بمثل هذا الولد‏.‏

وإن قيل‏:‏ إن هذا اللفظ لا يتناول إلا ما استحقه كان هذا مفهوم منطوق خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، وإذا لم يكن له مفهوم كان مسكوتاً عنه في هذا الموضع، ولكن قد يتناوله في قوله‏:‏ على زيد، ثم على أولاده، ثم على أولاد أولادهم‏.‏ فإنا ذكرنا أن موجب هذا اللفظ مع ما ذكر بعده من أن الميت ينتقل نصيبه إلى ولده صريح في أن المراد ترتيب الأفراد على الأفراد، والتقدير‏:‏ على زيد، ثم على أولاده، ثم على ولد كل واحد/ بعد والده، وهذا اللفظ يوجب أن يستحق كل واحد ما كان أبوه مستحقه لو كان متصفاً بصفة الاستحقاق، كما يستحق ذلك أهل طبقاته‏.‏ وهذا متفق عليه بين علماء المسلمين في أمثال ذلك شرعاً وشرطاً، وإذا كان هذا موجب استحقاق الولد، وذلك التفصيل إما أن يوجب استحقاق الولد ـ أيضا ـ وهو الأظهر، أو لا يوجب حرمانه، فيقر العمل بالدليل السالم عن المعارض المقاوم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عمن وقف وقفاً على أولاده، فلان وفلان وفلان، وعلى ابن ابنه فلان، على أنه من توفى منهم عن ولد ذكر انتقل نصيبه إلى ولده، ومن مات عن بنت انتقل نصيبه إليها، ثم إلى أعمامها، ثم بني أعمامها الأقرب فالأقرب منهم، فمات ابن ابن عن غير ولد، وترك أخته من أبويه وأعمامه، فأيهم أحق‏؟‏

فأجاب‏:‏

ينتقل نصيبه إلى أخته لأبويه، فإنه قد ظهر من قصد الواقف تخصيص ما كان ينبغي أن يستحقه أصله، وتخصيص نصيب الميت عن غير ولد بالأقرب إليه، وأنه أقام موسى ابن الابن مقام ابنه؛ لأن أباه كان ميتاً وقت الوقف‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن قرية وقفها السلطان صلاح الدين، فجعل ريعها وقفاً على شخص معين، ثم على أولاده من بعده، والنصف والربع على الفقراء، واستمر الأمر على هذه الصورة ـ والقرية عامرة ـ فلما كان سنة دخول قازان خربت هذه القرية واستمرت داثرة مدة ثماني سنين، فجاء رجل من المشائخ وأخذ توقيعاً سلطانياً بتمكينه من أن يعمر هذه القرية، فعمرها وتوفى إلى رحمة اللّه، وخلف أيتاماً صغاراً فقراء لا مال لهم، فجاءت امرأة من ذرية الموقوف عليه صاحب الريع فأثبتت نسبها، وتسلمت ريع هذه القرية، واستمر النصف والربع على الفقراء بحكم شرط الواقف، وبقي أولاد الذي عمر القرية فقراء، فهل يجوز لهم أن يقبضوا كفايتهم في جملة الفقراء‏؟‏ أم لهم ما غرمه والدهم على تعميرها ما لم يستوف عوضه قبل وفاته‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كانوا داخلين في شروط الواقف، فإنهم يستحقون ما يقتضيه الشرط، وإن قدر تعذر الصرف إلى الموصوفين لتعذر بعض الأوصاف، فكان هؤلاء الأطفال مشاركين في الاستحقاق لمن يصرف إليه المال، فينبغي/ أن يصرف إليهم ـ أيضاً ـ ما غرمه والدهم من القرية بالمعروف من ماله؛ ليستوفى عوضه، فإنهم يستوفونه من مغل الوقف‏.‏

 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن قسمة الوقف ومنافعه‏؟‏

فأجاب‏:‏

ما كان وقفاً على جهة واحدة لم يجز قسمة عينه، وإنما يجوز قسمة منافعه بالمهايأة‏.‏ وإذا تهايؤوا ثم أرادوا نقضها فلهم ذلك، وإذا لم يقع من المستحق أو وكيله فهي باطلة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

وسئل عن وقف على جهة واحدة، فقسمه قاسم حنبلي، معتقداً جواز ذلك، حيث وجد في المختصرات‏:‏ إنا إذا قلنا‏:‏ القسمة إقرار جاز قسمة الوقف، ثم تناقل الشريكان بعض الأعيان، ثم طلب بعضهم نصيبه الأول من المقاسمة‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان الوقف على جهة واحدة، فإن عينه لا تقسم قسمة/ لازمة، لا في مذهب أحمد ولا غيره، وإنما في المختصرات لما أرادوا بيان فروع قولنا‏:‏ القسمة إقرار أو بيع‏.‏ فإذا قلنا‏:‏ هي بيع لم يجز؛ لأن الوقف لا يباع‏.‏ وإذا قلنا‏:‏ هي إقرار جاز قسمته في الجملة‏.‏ ولم يذكروا شروط القسمة كما جرت به العادة في أمثال ذلك‏.‏ وقد ذكر طائفة منهم في قسمة الوقف وجهين، وصرح الأصحاب بأن الوقف إنما يجوز قسمته إذا كان على جهتين، فأما الوقف على جهة واحدة فلا تقسم عينه اتفاقاً؛ لتعلق حق الطبقة الثانية والثالثة، لكن تجوز المهايأة على منافعه‏.‏ والمهايأة‏:‏ قسمة المنافع، ولا فرق في ذلك بين مناقلة المنافع وبين تركها على المهايأة بلا مناقلة، فإن تراضوا بذلك أعيد المكان شائعاً كما كان في العين والمنفعة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عن وقف على جماعة، وأن بعض الشركة قد دفع في الفاكهة مبلغاً، وأن بعض الشركة امتنع من التضمين والضمان، وطلب أن يأخذ ممن يشتريه قدر حصته من الثمرة، فهل يحكم عليه الحاكم بالبيع مع الشركة أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا لم تمكن قسمة ذلك قبل البيع بلا ضرر فعليه أن يبيع مع شركائه ويقاسمهم الثمن‏.‏

/ وسئل عن وقف لمصالح الحرم وعمارته، ثم بعد ذلك يصرف في وجوه البر والصدقات، وعلى الفقراء والمساكين المقيمين بالحرم، فهل يجوز أن يصرف من ذلك على القوام والفراشين القائمين بالوظائف‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم القائمون بالوظائف مما يحتاج إليه المسجد، من تنظيف وحفظ، وفرش، وتنويره، وفتح الأبواب، وإغلاقها، ونحو ذلك، هم من مصالحه يستحقون من الوقف على مصالحه‏.‏

 وسئل ـ رَحمه اللهّ ـ عن رجل اشترى داراً، ولم يكن في كتبه غير ثلاثة حدود، والحد الرابع لدار وقف، ثم إن الذي اشترى هدم الدار وعمرها، ثم إنه فتح الطاقة في دار الوقف يخرج النور منها إلى مخزن، وجعل إلى جنب الجدار سقاية مجاورة للوقف ـ محدثة تضر حائط الوقف ـ وبرز بروزاً على دور قاعة الوقف، فإذا بني على دور القاعة، وجعل أخشاب سقف على الجدار الذي/للوقف، وفعل هذا بغير إذن ولي الأمر، وذكر أنه استأجره كل سنة بثلاثة دراهم، وولي الأمر لم يؤجره إلى الآن، ولا المباشرون، ثم إن رجلاً حلف باللّه أنه يستأجر هذا الجدار، وهو بين الدور، وأزيل ما فعله من البروز والسقاية، ولم أحدث فيه عمارة إلا احتسابا للّه ـ تعالى ـ وأستأجره كل سنة بعشرين درهماً، مدة عشرين سنة، حتى بقي دور قاعة الوقف نيرة، ولم تتضرر الجيرة بالعلو، فهل يجوز الإيجار للذي تعدي‏؟‏ أم للذي قصد المثوبة وزيادة للوقف بالأجرة إن أجره ولي الأمر المنفعة بالزيادة، ولإزالة الضرر عن الوقف‏؟‏

فأجاب‏:‏

ليس له أن يبني على جدار الوقف ما يضر به باتفاق الناس، بل وكذلك إذا لم يضر به عند جمهور العلماء، ودعواه الاستئجار غير مقبولة بغير حجة، ولو آجر إجارة فيها ضرر على الوقف لم تكن إجارة شرعية، ومن طلب استئجاره بعد هذا وكان ذلك مصلحة للوقف، فإنه يجوز، بل يجب أن يؤجر، وإذا كان له نية حسنة حصل له من الأجر والثواب بحسب ذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 /وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل ساكن في خان وقف، وله مباشر لرسم عمارته وإصلاحه، وأن الساكن أخبر المباشر أن مسكنه يخشي سقوطه وهو يدافعه، ثم إن المباشر صعد إلى المسكن المذكور، ورآه بعينه، وركضه برجله، وقال‏:‏ ليس بهذا سقوط، ولا عليك منه ضرر، وتركه ونزل، فبعد نزوله سقط المسكن المذكور على زوجة الساكن وأولاده، فمات ثلاثة، وعدم جميع ماله، فهل يلزم المباشر من مات، ويغرم المال الذي عدم أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

على هذا المباشر المذكور الذي تقدم إليه وأخر الاستهدام ضمان ما تلف بسقوطه، بل يضمن، ولو كان مالك المكان إذا خيف السقوط وأعلم بذلك، وإن لم يكن المعلم له مستأجراً منه عند جماهير العلماء كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في المشهور، وطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم، لكن بعضهم يشترط الإشهاد عليه، وأكثرهم لا يشترط ذلك، فإنه مفرط بترك نقضه وإصلاحه، ولو ظن أنه لا يسقط، فإنه كان عليه أن يري ذلك لأرباب الخبرة بالبناء، فإذا ترك ذلك كان مفرطاً ضامناً لما تلف بتفريطه، لا سيما مع قوله للمستأجر‏:‏ إن شئت فاسكن، وإن شئت فلا تسكن، فإن هذا عدوان منه‏.‏

/فإن المستأجر له مطالبة المؤجر بالعمارة التي يحتاج إليه المكان، والتي هي من موجب العقد، وهذه العمارة واجبة من وجهين‏:‏ من جهة حق أهل الوقف ومن جهة حق المستأجر‏.‏ والعلماء متفقون على أنه ليس لناظر الوقف أن يفرط في العمارة التي استحقها المستأجر، فهذان التفريطان يجب عليه بتركهما ضمان ما يتلف بتفريطه، فيضمن مال الوقف للوقف، ويدخل في ذلك المنافع التي استحقها المستأجر؛ بخلاف ما لو كانت العين باقية، فإن له أن يضمنه إياها وله أن يفسخ الإجارة، وأما ما تلف بالتفريط من النفوس والأموال التي للمستأجر، فيضمن من هذه الوجوه الثلاثة، ويضمن ما تلف للجيران من الوجه الأول، كما ذهب إليه جماهير العلماء‏.‏

 وسئل عن مال موقوف على فكاك الأسرى، وإذا استدين بمال في ذمم الأسرى بخلاصهم لا يجدون وفاءه‏:‏ هل يجوز صرفه من الوقف‏؟‏ وكذلك لو استدانه ولي فكاكهم بأمر ناظر الوقف أو غيره‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم يجوز ذلك، بل هو الطريق في خلاص الأسرى، أجود من إعطاء المال ابتداء لمن يفتكهم بعينهم، فإن ذلك يخاف عليه، وقد يصرف/في غير الفكاك، وأما هذا فهو مصروف في الفكاك قطعاً‏.‏ ولا فرق بين أن يصرف عين المال في جهة الاستحقاق، أو يصرف ما استدين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم تارة يصرف مال الزكاة إلى أهل السهمان، وتارة يستدين لأهل السهمان ثم يصرف الزكاة إلى أهـل الـدين، فعلم أن الصرف وفـاء كالصرف أداء‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل تحته حصة في حمام، وهي موقوفة على الفقراء والمساكين فخرب شيء من الحمام في زمان العدو، فأجر تلك الحصة لشخص مدة ثماني سنين بثمانمائة درهم، وأذن له أن يصرف تلك الأجرة في العمارة الضرورية في الحمام، فعمر المستأجر، وصرف في العمارة حتى صارت أجرة الحصة المذكورة، وذكر أنه فضل له على الوقف مال زائد عن الأجرة من غير إذن المؤجر، فهل يجوز له ذلك أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، إذا عمر عمارة زائدة عن العمارة الواجبة على الوجه المأذون فيها لم يكن على أهل الحمام أن يقوموا ببقية تلك العمارة الزائدة ولا قيمتها، بل له أن يأخذها إذا لم يضر أخذها بالوقف، وإذا كانت العمارة تزيد كـراء الحمام، فاتفقوا على أن تبقي العمارة له، لا يعطونه بقيمتها، بل/ يكون مـا يحصل من زيادة الأجرة بإزاء ذلك، جاز ذلك، وإن أراد أهل الوقف أن يقلعوا العمارة الزائدة، فلهم ذلك إذا لم تنقص المنفعة المستحقة بالعقد، وإن اتفقوا على أن يعطوه بقية العمارة ويزيدهم في الأجرة بقدر ما زاد من المنفعة جاز‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عن وقف على تكفين الموتي، يفيض ريعه كل سنة على الشرط‏:‏ هل يتصدق به‏؟‏ وهل يعطي منه أقارب الواقف الفقراء‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا فاض الوقف عن الأكفان صرف الفاضل في مصالح المسلمين، وإذا كـان أقاربـه محاويج فهم أحق من غيرهم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عن فقيه منزل في مدرسة، ثم غاب مدة البطالة، فهل يحل منعه من الجامكية أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، إذا لم يغب إلا شهر البطالة، فإنه يستحق ما يستحقه الشاهد، لا فرق في أشهر البطالة بين أن يكون البطال شاهداً أو غائباً‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل َعن مقرئ على وظيفة، ثم إنه سافر واستناب شخصاً، ولم يشترط عليه، فلما عاد قبض الجميع، ولم يخرج من المكان، فهل يستحق النائب المشروط أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، نعم النائب يستحق المشروط كله، لكن إذا عاد المستنيب فهو أحق بمكانه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عمن وقف وقفاً مستغلاً ثم مات، فظهر عليه دين، فهل يباع الوقف في دينه‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا أمكن وفاء الدين مع ريع الوقف لم يجز بيعه، وإن لم يمكن وفاء الدين إلا ببيع شيء من الوقف ـ وهو في مرض الموت ـ بيع باتفاق العلماء‏.‏ وإن كان الوقف في الصحة، فهل يباع لوفاء الدين‏؟‏ فيه خلاف بين العلماء في مذهب أحمد وغيره‏.‏ ومنعه قول قوي‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل قال في مرضه‏:‏ إذا مت فداري وقف على المسجد الفلاني، فتعافي، ثم حدث عليه ديون، فهل يصح هذا الوقف ويلزم أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

يجوز أن يبيعها في الدين الذي عليه، وإن كان التعليق صحيحًا كما هو أحد قولي العلماء، وليس هذا بأبلغ من التدبير، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه باع المدبر في الدين‏.‏ والله أعلم‏.‏